فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}.
{أصبح} مستعمل في معنى صار فاقتضى تحولًا من حالة إلى حالة أخرى، أي كان فؤادها غير فارغ فأصبح فارغًا.
والفؤاد مستعمل في معنى العقل واللب.
والفراغ مجازي.
ومعنى فراغ العقل من أمر أنه مجاز عن عدم احتواء العقل على ذلك الأمر احتواء مجازيًا، أي عدم جولان معنى ذلك الأمر في العقل، أي ترك التفكير فيه.
وإذ لم يذكر أن فؤاد أم موسى لماذا أصبح فارغًا احتملت الآية معاني ترجع إلى محتملات متعلق الفراغ ما هو.
فاختلف المفسرون في ذلك قديمًا، ومرجع أقوالهم إلى ناحيتين: ناحية تؤذن بثبات أم موسى ورباطة جاشها، وناحية تؤذن بتطرق الضعف والشك إلى نفسها.
فأما ما يرجع إلى الناحية الأولى فهو أنه فارغ من الخوف والحزن فأصبحت واثقة بحسن عاقبته تبعًا لما ألهمها من أن لا تخاف ولا تحزن فيرجع إلى الثناء عليها.
وهذا أسعد بقوله تعالى بعد {لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} لأن ذلك الربط من توابع ما ألهمها الله من أن لا تخاف ولا تحزن.
فالمعنى: أنها لما ألقته في اليم كما ألهمها الله زال عنها ما كانت تخافه عليه من الظهور عليه عندها وقتله لأنها لما تمكنت من إلقائه في اليم ولم يشعر بها أحد قد علمت أنه نجا.
وهذا المحمل يساعده أيضًا ما شاع من قولهم: فلان خلي البال: إذا كان لا هم بقلبه.
وهو تفسير أبي عبيدة والأخفش والكسائي وهذا أحسن ما فسرت به وهو من معنى الثناء عليها بثباتها.
وعن ابن عباس من طرق شتى أنه قال: فارغًا من كل شيء إلا ذكر موسى.
وفي هذا شيء من رباطة جاشها إذ فرغ لبها من كل خاطر يخطر في شأن موسى.
وأما زيادة ما أداه الاستثناء بقوله: إلا ذكر موسى، فلعله انتزعه من قوله: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} وإلا فليس في الآية ما يؤذن بذلك الاستثناء.
وهذا التفسير يقتضي الجمع بين الثناء عليها بحسن ثقتها بالله والإشارة إلى ضعف الأمومة بالتشوق إلى ولدها وإن كانت عالمة بأنه يتقلب في أحوال صالحة به وبها.
وأما الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فقال ابن عطية والقرطبي عن ابن القاسم عن مالك: الفراغ هو ذهاب العقل.
قال ابن عطية: هو كقوله تعالى: {وأفئدتهم هواء} [إبراهيم: 43] أي لا عقول فيها.
وفي الكشاف: أي لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع.
قال ابن زيد والحسن وابن إسحاق: أصبح فارغًا من تذكر الوعد الذي وعدها الله إذ خامرها خاطر شيطاني فقالت في نفسها: إني خفت عليه من القتل فألقيته بيدي في يد العدو الذي أمر بقتله.
قال ابن عطية: وقالت فرقة: فارغًا من الصبر.
ولعله يعني من الصبر على فقده.
وكل الأقوال الراجعة إلى هذه الناحية ترمي إلى أن أم موسى لم تكن جلدة على تنفيذ ما أمرها الله تعالى وأن الله تداركها بوضع اليقين في نفسها.
وجملة {إن كادت لتُبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} تكون بالنسبة للتفسير الأول استئنافًا بيانيًا لما اقتضاه فعل {أصبح} من أنها كانت على حالة غير حالة فراغ فبينت بأنها كانت تقارب أن تظهر أمر ابنها من شدة الاضطراب فإن الاضطراب ينم بها.
فالمعنى: أصبح فؤادها فارغًا، وكادت قبل ذلك أن تبدي خبر موسى في مدة إرضاعه من شدة الهلع والإشفاق عليه أن يقتل.
وعلى تفسير ابن عباس تكون جملة {إن كادت} بمنزلة عطف البيان على معنى {فارغًا}.
وهي دليل على الاستثناء المحذوف.
فالتقدير: فارغًا إلا من ذكر موسى فكادت تظهر ذكر موسى وتنطق باسمه من كثرة تردد ذكره في نفسها.
وأما على الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فجملة {إن كادت لتبدي به} بيان لجملة: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا} أي كادت لتُبْدي أمر موسى من قلة ثبات فؤادها.
وعن مجاهد: لما رأت الأمواج حملت التابوت كادت أن تصيح.
والباء في {به} إما لتأكيد لصوق المفعول بفعله والأصل: لتبديه، وإما لتضمين تبدي معنى تبوح وهو أحسن و{إن} مخففة من الثقيلة.
واللام في {لتبدي} فارقة بين إن المخففة وإن النافية.
والربط على القلب: توثيقه عن أن يضعف كما يشد العضو الوهن، أي ربطنا على قلبها بخلق الصبر فيه.
وجواب {لولا} هو جملة {إن كادت لتبدي به}.
والمراد بالمؤمنين المصدقون بوعد الله، أي لولا أن ذكّرناها ما وعدناها فاطمأن فؤادها.
فالإيمان هنا مستعمل في معناه اللغوي دون الشرعي لأنها كانت من المؤمنين من قبل، أو أريد من كاملات المؤمنين.
واللام للتعليل، أي لتُحرز رتبة المؤمنين بأمر الله الذين لا يتطرقهم الشك فيما يأتيهم من الواردات الإلهية.
{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)}.
ظاهر ترتيب الأخبار أنها على وفق ترتيب مضامينها في الحصول، وهذا يرجح أن يكون حصول مضمون {وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا} [القصص: 10] سابقًا على حصول مضمون {وقالت لأخته قصيه} أي قالت لأخته ذلك بعد أن اطمأن قلبها لما ألهمته من إلقائه في اليم، أي لما ألقته في اليم قالت لأخته: انظري أين يلقيه اليم ومتى يستخرج منه، وقد علمت أن اليم لا يلقيه بعيدًا عنها لأن ذلك مقتضى وعد الله برده إليها.
وأخت موسى اسمها مريم، وقد مضى ذكر القصة في سورة طه.
والقصّ: اتباع الأثر، استعمل في تتبع الذات بالنظر فلذلك عُدي إلى ضمير موسى دون ذكر الأثر.
وقد تقدم في سورة الكهف (64) عند قوله: {فارتدا على ءاثارهما قصصًا}.
وبصُر بالشيء صار ذا بصر به، أي باصرًا له فهو يفيد قوة الإبصار، أي قوة استعمال حاسة البصر وهو التحديق إلى المبصر، فبصر أشد من أبصر.
فالباء الداخلة على مفعوله باء السببية للدلالة على شدة العناية برؤية المرئي حتى كأنه صار باصرًا بسببه.
ولك أن تجعل الباء زائدة لتأكيد الفعل فتفيد زيادة مبالغة في معنى الفعل.
وتقدم في قوله تعالى: {قال بصُرتُ بما لم يبصروا به} في سورة طه (96).
والجُنُب: بضمتين البعيد.
وهو صفة لموصوف يعرف من المقام، أي عن مكان جنب.
و{عن} للمجاوزة والمجرور في موضع حال من ضمير {بصرت} لأن المجاوزة هنا من أحوال أخته لا من صفات المكان.
و{هم} أي آل فرعون حين التقطوه لا يشعرون بأن أخته تراقب أحواله وذلك من حذق أخته في كيفية مراقبته.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)}.
الواو للحال من ضمير {لأخته} [القصص: 11].
والتحريم: المنع، وهو تحريم تكويني، أي قدّرنا في نفس الطفل الامتناع من التقام أثداء المراضع وكراهتها ليضطر آل فرعون إلى البحث عن مرضع يتقبّل ثديها؛ لأن فرعون وامرأته حريصان على حياة الطفل، ومن مقدمات ذلك أن جعل الله إرضاعه من أمه مدة تعود فيها بثديها.
ومعنى {من قبل} من قبل التقاطه وهو إيذان بأن ذلك التحريم مما تعلق به علم الله وإرادته في الأزل.
والفاء في قوله: {فقالت} فاء فصيحة تؤذن بجملة مقدرة، أي فأظهرت أخته نفسها كأنها مرت بهم عن غير قصد.
وإنما قالت ذلك بعد أن فشا في الناس طلب المراضع له وتبديل مرضعة عقب أخرى حتى عُرض على عدد كثير في حصة قصيرة، وذلك بسرعة مقدرة آل فرعون وكثرة تفتيشهم على المراضع حتى ألفوا عددًا كثيرًا في زمن يسير، وأيضًا لعرض المراضع أنفسهن على آل فرعون لما شاع أنهم يتطلبون مرضعًا.
وعرضت سعيها في ذلك بطريق الاستفهام المستعمل في العرض تلطّفًا مع آل فرعون وإبعادًا للظنة عن نفسها.
ومعنى {يكفلونه} يتعهدون بحفظه وإرضاعه.
فيدل هذا على أن عادتهم في الإرضاع أن يسلم الطفل الرضيع إلى المرأة التي ترضعه يكون عندها كما كانت عادة العرب لأن النساء الحرائر لم يكن يرضين بترك بيوتهن والانتقال إلى بيوت آل الأطفال الرضعاء.
كما جاء في خبر إرضاع محمد صلى الله عليه وسلم عند حليمة بنت وهب في حي بني سعد بن بكر.
قال صاحب الكشاف: فدفعه فرعون إليها وأجرى لها وذهبت به إلى بيتها.
والعدول عن الجملة الفعلية إلى الإسمية في قوله: {وهم له ناصحون} لقصد تأكيد أن النصح من سجاياهم ومما ثبت لهم فلذلك لم يقل: وينصحون له كما قيل {يكفلونه لكم} لأن الكفالة أمر سهل بخلاف النصح والعناية.
وتعليق {له} ب {ناصحون} ليس على معنى التقييد بل لأنه حكاية الواقع.
فالمعنى: أن النصح من صفاتهم فهو حاصل له كما يحصل لأمثاله حسب سجيتهم.
والنصح: العمل الخالص الخلي من التقصير والفساد.
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}.
تقدم نظير قوله: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن} في سورة [طه: 40].
وقوله: {ولتعلم أن وعد الله حق} فإنما تأكيد حرف {كي} بمرادفه وهو لام التعليل للتنصيص من أول وهلة على أنه معطوف على الفعل المثبت لا على الفعل المنفي.
وضمير {أكثرهم لا يعلمون} عائد إلى الناس المفهوم من المقام أو إلى رعية فرعون، ومن الناس بنو إسرائيل.
والاستدراك ناشيء عن نصب الدليل لها على أن وعد الله حق، أي فعلمت ذلك وحدها وأكثر القوم لا يعلمون ذلك لأنهم بين مشركين وبين مؤمنين تقادم العهد على إيمانهم وخلت أقوامهم من علماء يلقنونهم معاني الدين فأصبح إيمانهم قريبًا من الكفر.
وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أمورًا ذات شأن فيها ذكرى للمؤمنين وموعظة للمشركين.
فأول ذلك وأعظمه: إظهار أن ما علمه الله وقدَّره هو كائن لا محالة كما دل عليه قوله: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض} إلى قوله: {يحذرون} [القصص: 5- 6] وأن الحذر لا ينجي من القدر.